الإنسان يعاني دوماً من صراع عنيف كامن في أعماق نفسه. فهو يشتهي أموراً كثيرة، ولكن الحياة الاجتماعية تضطره أن يكبت شهواته ويداريها. ومعنى هذا أن الإنسان واقع بين حجري الرحى. فالآداب الاجتماعية تفرض عليه نوعاً معيناً من السلوك، ولكن غرائزه العارمة تدفعه على مخالفة ذلك السلوك. وهو إذن حائر ملتاث، يعاني صراعاً نفسياً أليماً.
ولكن الطبيعة هيأت للإنسان مخرجاً يخفف به شدة ذلك الصراع. ويظهر هذا التخفيف في صور شتى، أهمها الأحلام. فالأحلام إذن تشبه ((صمام الأمان)) الذي يوضع في المراجل البخارية لكي يحميها من الانفجار.
ـ طبيعة الإنسان:
وهنا يجب أن لا ننسى أن الإنسان في اصل طبيعته حيوان، وهو حين يكتسب الصبغة البشرية، تظل النزعات الحيوانية كامنة فيه.
ـ هبة الله:
يقول فرويد أن الأحلام هبة من الله. فهي عملية تهريب للرغبات المحرمة. وهي تلجأ في سبيل ذلك إلى لف بضائعها الممنوعة بحزم خدّاعة لكي تخفى عن أعين الرقباء والجباة.
من الممكن القول بأن النوم راحة بدنية ونفسية في آن واحد. ولولا النوم لهلك الإنسان. فالإنسان يريح بدنه المتعب بالنوم، وبه أيضاً يشبع رغباته المكبوتة أو ينفس عنها.
أكثر الناس راحة في هذه الدنيا هو المجنون، إذ هو يعيش في حلم مستديم. إنه يصور الدنيا كما يشتهي. فإذا وجد الناس حوله لا يفهمونه ولا يستجيبون له أنحى عليهم باللائمة وعدَّ نفسه العاقل الوحيد من دون الناس.
أما العاقل الناضج فمصيبته أنه يشعر بوجود الناس حوله، ويتأثر بالرقابة الخفية المفروضة عليه منهم. وهو لا يندفع في تيار رغباته وأفكاره الخاصة مخافة أن يضحك عليه الناس أو يعاقبونه. إن الرقابة الاجتماعية تمنعه من القيام بأي عمل لا ترتضيه منه. ولهذا فهو يلجأ إلى الأحلام ليخلق بها الدنيا التي يشتهيها، قليلاً أو كثيراً. ومن هنا جاء قول القائل: كل إنسان مجنون في منامه!
ـ قصة بالمناسبة:
أشرت في أحد كتبي أني حين أعجز عن الانتقام من أعدائي عند اليقظة ألجأ إلى الأحلام لأنتقم منهم فيها انتقاماً لا هوادة فيه. وكنت قد ذكرت هذا باعتباري بشراً كسائر الناس. ولشد ما كان عجبي حين وجدت أحد النقاد يستهتزئ بي وبعد ذلك مني صفة غير لائقة.
ـ أحلام اليقظة:
يعتقد فرويد أن الإنسان يستطيع أن يشبع رغباته المكبوتة أثناء اليقظة أحياناً. وذلك عن طريق ما يسمى بأحلام اليقظة.
فقد يشتد ضغط الرغبة على أحد الناس بحيث لا يستطيع الصبر عليها. أنه يريد أن يشبعها حالاً. ولعله لا يحب أن ينتظر وقت النوم، أو هو لا يعتمد على أحلام النوم اعتماداً كبيراً، فيلجأ إلى أحلام اليقظة لينفس بها عن همومه الكامنة.
ونجده عند ذاك منطوياً على نفسه، إذ هو يتخيل ما يشتهي. فيتكلم بصوت مسموع ويحرك يديه ويهدد ويعربد، كأنه يرى الأمور واضحة بين يديه. وقد تغطى عليه أحلام اليقظة أحياناً فيندفع بها غاضباً أو شاكياً بالرغم من وجود الناس حوله.
ـ أمثلة واقعية:
كنت أمشي ذات يوم في شارع خال من الناس. فلمحت من بعيد رجلاً يصرخ ويهدد. فحسبته يهددني، وكدت أطلق ساقي للريح. واقترب الرجل مني فوجدته مشغولاً عني، ومر بي دون أن يشعر بي. وكان يشتم ويجادل جدلاً عنيفاً. إنه كان منغمراً في أحلامه. فهو يرى ما لا أره ويعيش في دنياه الخاصة.
ولا أكتم القارئ أني ابتليت بما ابتلى به هذا الرجل غير مرة. وطالما جادلت وهددت في غرفتي الخاصة دون أن يكون معي أحد يسمع مجادلتي وتهديدي. ومرت بي فترة من حياتي كنت فيها مبتلياً بأحلام اليقظة على نمط عنيف. فكنت أمشي في الطرقات المنعزلة وأنا أخاصم الهواء واصفعه وأبصق عليه. وكدت أقع من جراء ذلك في مصيبة.
والمظنون أن جميع الناس يعانون من هذا البلاء قليلاً أو كثيراً. ومن الناس من ينكر ذلك عن نفسه، ولكنه مبتل به من حيث لا يشعر. فقد تتحدث إليه وتحسبه مصغياً إليك. وهو ينظر إليك ظاهراً، ولكن خياله سابح في مكان آخر. إنه يحلم، وتدفعه رغباته المكبوتة في عالم من الأحلام لا حد له.
وقد يلقي الأستاذ محاضرة على طلابه فيجد بعضهم لا يفهمون ما يقول. إنهم منغمسون في أحلامهم وحين يسألهم الأستاذ عما فهموا من محاضرته، يجيبونه بأنهم فهموا منها شيئاً كثيراً وهم كاذبون. وربما كانوا أثناء المحاضرة يحلمون بضرب الأستاذ بدلاً من الإصغاء إليه.
ـ الأحلام السادية والماسوخية:
السادية صفة تعتري الإنسان فتجعله يتلذذ بإيذاء الغير والاعتداء عليه وإيلامه.
أما الماسوخية فهي على العكس من ذلك حيث يتلذذ الإنسان فيها بأن يكون المتألم أو المعتدى عليه.
وهاتان الصفتان تظهران في أحلام اليقظة على درجات متفاوتة. وقد أجريت على بعض الطلاب في دار المعلمين العالية بحثاً من هذه الناحية، فوجدت أن أحلامهم على نوعين: سادية وماسوخية.
فمنهم مَن يتخذ في أحلام يقظته دور المعتدي فيتخيل عدوه منتصباً أمامه، ويأخذ بشفاء غليله منه. فهو يمسك بخناقه أو يشتمه شتماً لاذعاً أو يضرب على رأسه بهراوة ثقيلة.
ومنهم مَن يتخذ في أحلامه دور المعتدى عليه. فهو يتصور نفسه مخذولاً أو مهاناً أو مضروباً. والناس قد أجمعوا على النكاية به واحتقاره. وهو يجد في ذلك لذة نفسية عميقة، فيبكي ويتأوه.
وقد يتخذ أحدهم الدوري معاً. فهو ماسوخي تارة وسادي تارة أخرى. وهو على أي حال يريد أن يشبع رغباته الكامنة، فإذا انتباه اليأس فيها صار ماسوخياً، وإذا اعتراه الغضب صار سادياً، ولله في خلقه شؤون!
ـ أحلام الشعوب:
ولا يغرب عن بال القارئ أن الشعوب تحلم كما يحلم الأفراد. فكتاب ألف ليلة وليلة ثملاً ليس سوى مجموعة من الأحلام الشعبية. وهي بصفة خاصة أحلام الفقراء الذين يجوعون إلى المرأة الجميلة والقصر الفخم والطعام اللذيذ.